Friday, April 3, 2015

الإرهاب الإكراهي
بقلم الدكتور محمد كمال الشريف
*           في البداية
في البداية كانت القاعدة، ثم جاءت الدولة الإسلامية التي أعلنها تنظيم داعش لتضع المنطقة بل وجميع دول العالم أمام تحدٍ خطير على أمنها. كان الظن أن بالإمكان القضاء على هذه التنظيمات الإسلامية الساعية إلى إكراه الناس على الإسلام وعلى تحكيم الشريعة، لكن الأيام أثبتت أن  القضاء على هذه الجماعات المسلحة -التي كان ظهورها ونشاطها مرغوباً من بعض القوى الإقليمية والعالمية-  لن يكون سهلاً ميسراً، وقد لا يكون ممكناً على الإطلاق.
نبتت داعش في الشام والعراق وتعهدتها استخبارات بعض دول المنطقة بالسقاية والتغذية بطرق غير مباشرة، بحيث يظن الداعشيون أن المال يأتيهم هبات وتبرعات من أفراد مؤمنين مثلهم، يريدون أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم؛ فنمت هذه النبتة، وضربت جذورها في أرض الشام والعراق، وصار اجتثاثها عسيراً جداً. سيكون اجتثاث داعش مطلوباً بعد أن يتحقق الهدف الذي من أجله ساعدت القوى الإقليمية والعالمية على نشوئها وتمكنها. فداعش تحقق لهم -دون أن تدري- ما لا يستطيع أحد غيرها أن يحققه.

*                  داعش وانقسام الأمة
تحلم إسرائيل والصهيونية العالمية أن تقسّم الشرق الأوسط إلى دويلات طائفية متناحرة وضعيفة ولا أمل في توحدها من جديد، وأتت داعش والقاعدة وغيرهما من تنظيمات، لتؤدي دورها المشؤوم، المكمل لدور إيران في إثارة الطائفية بين السنة والشيعة، على مستوى المنطقة كلها، بل على مستوى العالم بأكمله. ليس كمثل هذه التنظيمات أحد يستطيع غرس الكراهية والأحقاد بين السنة والشيعة، وبخاصة أن إيران أنشأت ورعت تنظيمات شيعية مقابلة، لا يختلف تفكيرها عن داعش وأخواتها إلا في أنه من منظور شيعي. كلا الفريقين يكفّر من ليس معهم، ومن ليس على عقيدتهم والولاء لهم، ويستحلون قتله ونهبه واغتصاب نسائه. يطلق الجهادي الإكراهي السني النار ليقتل شيعياً يبادله إطلاق النار، ويصرخ الجهادي "الله أكبر"، ويفرح بنصر الله كلما أردى مسلماً شيعياً أو أصابه إصابة بالغة. كما يهتف الشيعي الذي يصوب طلقاته إلى مسلم سني "الله أكبر" و"يا حسين"،  ويشعر أنه كلما قتل سنياً نال أجراً عظيماً عند الله وارتفعت درجته في الجنة. فهل هنالك من هو أقدر من هذين الفريقين الضالين على تمزيق الأمة وخلق الأحقاد والثارات فيها؟ هذا هو الهدف الأول لمن يعبثون بمنطقتنا.

*                  الأهداف خمسة
والهدف الثاني لهم هو تنفير المسلمين وغير المسلمين في منطقتنا وعلى مستوى العالم، من تحكيم الشريعة الإسلامية في حياتهم، على الرغم من إيمان أكثرهم وتقواه. إن ما تقوم به هذه المنظمات التكفيرية الإكراهية من تطبيق غبي للشريعة، هو بمثابة التطعيم أو اللقاح الذي يصيب البدن بالمرض مخففاً، كي لا يبقى للمرض سبيل للعودة إلى هذا الشخص. إن ما يرتكبونه من جرائم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ويتقربون إلى الله، يبث في نفوس الجميع الخوف وكراهية أن تحكّم الشريعة الإسلامية في أوطانهم، وبخاصة الطوائف غير المسلمة وغير السنّية.
ثم الهدف الثالث المرغوب والذي من أجله تمت رعاية نبتات هذه التنظيمات فهو ترسيخ تقسيم المنطقة على الأرض وجعل التقسيم أمراً واقعأ لا بد للأمة من الاعتراف به وتقبله ولو بعد حين.
ورابع الأهداف الذي تسعى إليه إسرائيل والصهيونية العالمية هو تدمير بلادنا ومواردنا ليتحقق الحلم الصهيوني في تسخير العمالة العربية للعمل عند الرأسمالية الإسرائيلة والصهيونية، ليكون منهم المال والعلم ومنا السواعد التي تعمل بأقل الأجور.
والهدف الخامس هو تجميع الجهاديين من السنة والشيعة في منطقة واحدة يقتل بعضهم بعضاً حتى يفنون، وإن لم يفنهم القتال ما بينهم تكفلت أمريكا بإفناء الباقين.
*                  رَعَوْهم ثم عادَوْهم
لقد أعانت القوى الإقليمية والدولية على قيام داعش وإعلانهم الدولة الإسلامية، ثم قالوا عنهم "إرهابيون" ونعتوهم بكل وصف قبيح، من مجرمين، إلى عملاء، إلى مرضى عقليين ومتعاطي مخدرات إلى فاسدين مفسدين، لا يتورعون عن الاعتداء على أعراض الناس وتبرير ذلك فقهياً. وكان ذلك مقدمة لإعلان الحرب عليهم، وتشكيل تحالف دولي للقضاء عليهم؛ لكن أمريكا التي تدعي حرصها على تخليص المنطقة من شرورهم، لا تريد سوى تحجيمهم وحصرهم في حدود جغرافية لا يتجاوزونها.
قبل سنة ونصف كتب كاتب أمريكي عن تقسيم العراق والشام إلى دويلات طائفية، وكان ملفتاً للنظر أن الخارطة المقترحة للمنطقة في المقال، فيها دولة سنية اسمها "سنّة- ستان" تضم الأنبار وأغلب شرق سورية. استغربت يومها هذا التقسيم، فقد كنت قبلها أؤمن أنهم سيقسمون العراق إلى ثلاث دويلات، ثم يقسمون سورية إلى دويلات أخرى، لكن دون تداخل التقسيمين؛ وزال استغرابي عندما أعلن داعش دولته الإسلامية على مناطق سنّستان التي حددتها خارطة التقسيم المقترحة من أمريكا.
قيام دولة سنية طائفية في هذه المناطق مطلب استراتيجي للذين يخافون من امتداد نفوذ إيران، حيث تكسر هذه الدولة الهلال الشيعي، وتحرم إيران وشيعة سورية ولبنان من التواصل عبر طرق برية، يستطيع الطرفان بواسطتها نقل العتاد والسلاح.
كان بإمكان أمريكا والقوى الإقليمية السنيّة أن تنشىء دولة سنيّة موالية لهم، بدل الدولة الداعشية المعادية، وبذلك يتحقق كسر الهلال الشيعي. لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل أتاحوا لداعش أن تقيم دولة معادية لهم ومعادية لإيران، لأنها رغم عداوتها لهم ستحقق لهم أهدافهم الخمسة التي ذكرتها  أعلاه، لذلك كثر حديثهم عن الحاجة إلى عشرات السنين كي نقضي على داعش ودولته، أي إن نيتهم ترك داعش ودولته قائمة عشرات السنين قبل أن يسحقوها، ليكون ذلك بعد تحقق الأهداف الخمسة كلها.
أما دول المنطقة التي أدركت خطورة داعش عليها فقد عملت بكل طاقاتها لمحاربته وتجفيف منابعه وموارده.. فصنفوه منظمة إرهابية، وصنفوا كل من يقدم له شيئاً إرهابياً، وبالتالي مجرماً يلاحقه القانون، وتناله العقوبات القاسية.
*                  الظن الخاطىء
ظنت هذه الدول -وكلها مسلمة-، أنها قادرة على تجفيف منابع هذه المنظمات الإكراهية عن طريق تصنيفها لداعش والقاعدة وأخواتهما كإرهابيين مطلوبين للعدالة، وعن طريق وصف ما يقومون به أنه جرائم يرفضها الإسلام، وأعلن كثير من علماء الدين فتاواهم بأن هؤلاء الإرهابيين خوارج، يجب قتالهم وقتلهم، ومنع ما يفعلونه من إكراه غير المسلمين على الإسلام، وإلا  فإنهم يخرجونهم من ديارهم ويسبون نسائهم ليبيعوهن جوارٍ يستحل من يشتريهن أن يستمتع بهن متعة  الزوج بزوجته. تعمل الآلة الإعلامية الموجهة ضد داعش والقاعدة والدولة الإسلامية -التي يرأسها من نصّب نفسه خليفة- ليل نهار، والحكومات تحسب أنها بذلك وبفتاوى العلماء ستنتصر على داعش وتقنع الشباب المسلم بعدم الانضمام إليها.
كان من الممكن أن يصدق هذا الظن، لولا أن داعش التي نزدريها، والقاعدة التي نسعد كلما تلقت ضربة موجعة، وبوكو حرام وغيرهم هم في عيون الكثيرين من المتدينين والإسلاميين شيء آخر مختلف، كما إن هنالك حقائق أخرى هامة لم تأخذها هذه الحكومات في اعتبارها.

*                  لابد من الأخذ بالاعتبار
أول هذه الحقائق التي على الحكومات أخذها في الاعتبار، هي أن الداعشيين والقاعديين ومن على نهجهم، يراهم الكثيرون من الذين يتمنون أن ترجع دولة الخلافة، أبطالاً ومجاهدين مخلصين، أخذوا الكتاب بقوة، كما فعل يحيى عليه السلام، لتصبح قسوة التكفيريين الإكراهيين مبررة ومظهراً لأخذ الكتاب بقوة، لا تأخذهم في الله لومة لائم.
أما ما يكال للإكراهيين من دواعش وغيرهم من أوصاف سيئة، فإن من يراهم مجاهدين أبطالاً، لن يبالي بها‘ وسيعتبرها مجرد دعاية كاذبة تهدف إلى تشويه صورة هؤلاء الأبطال، لتبرير القضاء عليهم وعلى مشروع دولتهم الإسلامية، ولن يكون لهذه الدعاية رغم صدقها أية مصداقية لديهم، وسيبقى متعاطفاً ومؤيداً لهذه التنظيمات الإكراهية، ولن يتردد في دعمها بالدعاء لها، وبالمال، إن أمن على نفسه، أو الانضمام إليها إن أراد أن يضحي بنفسه في سبيل جنة عرضها السماوات والأرض. ومما يرسخ اعجابهم بهؤلاء، وعدم تصديق ما يقال عنهم، أن التحالف الذي يحاربهم، تحالف أمريكي - أوربي إضافة لدول إسلامية، وكثير منهم يعتبرون الكراهية والعداء من هذه الدول -وبخاصة غير المسلمة منها- دليلاً على إخلاص هؤلاء الجهاديين الإكراهيين، وعلى أنهم على الحق، لذلك يحاربهم الجميع، كي لا تقوم للمسلمين دولة تطبق الشريعة وتعيد الخلافة وتفرض عزة المسلمين على الجميع. إنه منطق: عدو عدوك هو صديقك دائماً، وهو منطق خاطىء إذ ما أكثر ما يكون عدو عدوك عدواً لدوداً لك أيضاً.
لن يزيد وجود دول مسلمة ضمن التحالف من مصداقية الدعاية المضادة للجهاديين الإكراهيين، لأن للتيار الإسلامي تجارب مريرة مع كثير من أنظمة هذه الدول المسلمة التي لا تخفي عداءها لكل من يسعى إلى تطبيق الشريعة من جديد، ولأن الاعتقاد أن حكومات الدول المسلمة هي إما عميلة ومتعاونة مع الغرب الصليبي أو خاضعة لإملاءاته ولا تجرؤ على مخالفتها.

*                  دعاية مضادة غير مجدية
ومما يجعل الدعاية المضادة للمنظمات الجهادية الإكراهية غير فعالة، أن ما يقال عن أعمالهم، أنها مما يأباه الإسلام ولا يقره بحال من الأحوال، إنما هو تصريحات لعلماء دين، كثير منهم متهم في صدقه، ظنّاً أنهم من علماء السلاطين، الذين يفتون بما يريده الحاكم.  وهذه التصريحات يطلقها المفتون دون تأصيل شرعي مقنع، إنما هي شعارات سياسية، على النقيض من الفقه الموروث ومن التاريخ، الذي تباهي به الأمة الإسلامية. نعم وللأسف لم ينجح علماؤنا في إثبات أن الجهاديين الإكراهيين خاطئون من الناحية الشرعية ولم يقدموا أدلة قوية على فتاواهم وتصريحاتهم. وبالمقابل هنالك مفكرون -رغم قلة عددهم- يؤصلون تأصيلاً قوياً مدعما بالنصوص وأقوال العلماء الكبار السابقين، يثبت لهؤلاء، أن ما يقومون به هو الحق الذي يرضي ربنا، ويجب من أجله التضحية بالنفس والمال، دون أن تأخذنا في الله لومة لائم.
 من يقرأ لأبي محمد المقدسي مثلاً سينبهر وسيظن أن هؤلاء الجهاديين الإكراهيين على الحق المبين حتى لو كفروا الشعوب المسلمة واستحلوا دماءها، فإن ذلك جهاد قصرت فيه الأمة كثيراً، وأحياه هؤلاء الرجال المخلصون.
هؤلاء الشباب المتحمسون لدين الله، ولاستعادة عزة المسلمين، ولتحكيم شرع الله، والمتعجلون للوصول إلى الجنة من أقصر وأسرع طريق، هم في الغالب زادهم من الفقه قليل وعلمهم الشرعي هزيل.. هم أناس يريدون أن يعملوا دون أن يفلسفوا الأمور، حيث تبدو لهم الأشياء واضحة بسيطة، لا تحتاج إلى تخريجات العلماء، سواء السابقون منهم او المعاصرون، طالما هنالك آيات وأحاديث شريفة ظاهرها يؤيد ما يفعلونه. إنهم لا يريدون إضاعة الوقت والجهد في التنظير، بل هم يستجيبون لداعي الجهاد في سبيل الله، ولا يهمهم من خالفهم أو خطّأهم.

*                  أمور واجبة وحقائق غائبة
لن يمكننا مواجهة خطر هؤلاء الجهاديين التكفيريين الإكراهيين إلا عندما نأخذ في اعتبارنا الحقائق التالية:

*        1. الإنصاف

*                  أنهم في غالبيتهم شباب مؤمن مخلص، لا يريد غير الجنة ورضوان الله، وإن كان من المؤكد أن فيهم عملاء استخبارات متعددة، ابتداءً بالموساد الإسرائيلي ووكالة الاستخبارات الأمريكية، وانتهاء باستخبارات دول الإقليم، ومن المؤكد أن من هؤلاء المندسين بينهم والمخترقين لهم من وصل إلى مواقع قيادية في هذه التنظيمات، ويبذل الجهد لتوجيهها، لتقوم بما يخدم أعداء الأمة الإسلامية، وذلك سهل عليهم، لأن العلماء والفقهاء نادرون في هذه التنظيمات، وكذلك الخبراء في السياسة، السياسة التي تراعي المصلحة، وتقدمها على الأهداف الإيديولوجية، لتجعلهم يتصرفون بحكمة أكثر وبراغماتية، على النقيض مما يقومون به حالياً من أعمال متهورة تشوه صورة الإسلام والجهاد والشريعة.
قد يبدو ما أقوله دفاعاً عن التكفيريين الإكراهيين وتبريراً لأخطائهم يضر قضيتنا للقضاء عليهم، لكن العكس هو الصحيح. إن الإقرار بإخلاصهم وصدق نواياهم ودوافعهم، يجعلنا أقدر على تقليل خطرهم، وعلى القضاء على تنظيماتهم. إن الإقرار بما لديهم من الحق والإخلاص، والتوقف عن الدعاية المضادة لهم التي تتهمهم بما ليس فيهم، وبما لا يصدقه من يعرفهم عن قرب، هذا الإقرار المرافق لبيان أنهم مخطئون فيما يتبعونه من اجتهادات فقية تتنافى مع روح الإسلام، هذا الدين الحق الذي كان أول دين يعلنها صريحة أن "لا إكراه في الدين"، وأن رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم ما أرسله الله إلا رحمة للعالمين، أي لكل الشعوب والأمم على اختلاف أديانها ومعتقداتها.
إن هذا التوصيف المنصف لحالهم، يجعل دعايتنا المضادة لهم تصل إلى قلوب كثيرين منهم، ممن بهرهم إخلاصهم ولم يفطنوا إلى خطئهم، وإلى الآثار المدمرة لجهادهم القائم على إكراه الناس على دين "اللا إكراه". إننا بذلك نستطيع أن نؤثر على كثير منهم، بحيث يمكن أن يتراجعوا عما تورطوا فيه من الشر وهم يحسبونه خيراً. لقد أقر قرآننا أن الكافرين لديهم من الحق مقادير تزيد أو تنقص، وجاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب لكن مهيمناً عليه يصحح ما أصابه من تشويه وانحراف. إن من أكبر الأخطاء في محاولة إقناع الناس بأنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه أن لا نعترف بصدق نواياهم وأن لا نعترف بالحق الذي معهم المختلط بالباطل الناتج عن سوء الفهم لهذا الدين. إن ذلك يجعل من نخاطبهم دفاعيين لا يفكرون في أن ما نقوله لهم من آراء مخالفة لما هم عليه قد يكون محقاً وصائباً. أنت بخير ما دمت تؤمن أن اجتهادك صواب يحتمل الخطأ، وأن اجتهاد مخالفيك خطأ يحتمل الصواب، وإلا فإنك لن تُعْمِل عقلك في التفكر بما يطرح عليك من رأي يخالف ما أنت عليه.
إننا عندما ننكر ما لديهم من صدق وإخلاص ونقول لهم  إن الإسلام لا يرضى بما تقومون به، وما أنتم إلا مجرمين وضالين ومفسدين في الأرض، فإننا بذلك نفقد كل مصداقيتنا لديهم، ونكون في نظرهم أعداء للحق، نوايانا خبيثة، وغايتنا خدمة الطواغيت في الأرض، وليس الاهتداء إلى الصواب والحق.
يجب أن لا نستخف بهذه القضية ونقول: هؤلاء لا أمل فيهم، فقد غُسلت أدمغتهم، وغيّب وعيهم، وباعوا أنفسهم من أجل المال والجنس، فنيأس منهم ولا نجد أمامنا إلا قتالهم وقتلهم. فتاريخنا يروي لنا أن ابن عباس رضي الله عنه، استطاع خلال أيام قليلة، أن يقنع آلاف الخوارج أنهم مخطئون، فتركوا قتال علي رضي الله عنه. وهذا يعني أن من ينطبق عليه وصف أنه من الخوارج، الأصل فيه أنه مخلص جانَبَ الصواب، وأنه قابل لأن يهتدي إلى الحق ويرجع إليه.
لو تمكنا بحكمتنا وبرحمتنا لهم وباعتبارهم "إخواننا بغوا علينا" من جعل بعضهم يصغي إلينا، ويستمع ما نقول، فينسحب منهم، فسيكون ذلك إنجازاً عظيماً، لأن هؤلاء المنسحبين منهم سيكونون مقنعين لأعداد لا تحصى من الشباب المسلم المهيّأ للانضمام إليهم أن طريقهم خاطئة.
ثم إن اقرارنا بما لديهم من إخلاص، يجعل دعايتنا تصل إلى قلوب الملايين، الذين يرونهم أبطالاً ومجاهدين، بحيث ننجح في تجفيف منابع هذه التنظيمات الجهادية الإكراهية إلى حد كبير.


*                  2. الوضوح
لا بد أن يكون خلافنا معهم واضحاً لنا ولهم، هل هو اختلاف حول تكفير من لا يحكم بشرع الله أم هو اختلاف على شيء آخر؟ إن حصر الخلاف معهم في أنهم تكفيريون وأنهم إرهابيون عنيفون لن ينجح، لأن الله أمر المؤمنين بإعداد ما استطاعوا من قوة يرهبون بها عدو الله وعدوهم، ووصف من لا يوحده توحيداً خالصاً أنه كافر. ألم يقل ربنا قد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح عيسى بن مريم؟ ومع ذلك أحل لنا المحصنات من نسائهم نتزوجهن وننجب منهن.
في كل دين معتقدات أساسية من يؤمن بها فهو مؤمن ومن لا يؤمن بها فهو كافر. حتى المسلم الذي هو على هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كافر بالنسبة للذي يؤمن أنه لا نجاة ولا خلاص لمن لا يؤمن بألوهية المسيح. إن كنا نعيب عليهم أنهم يكفرون المخالف لهم فلن يستمعوا إلينا بل سيروننا ضعفاء مداهنين أو منافقين لا نكفر الكافر بل نمتنع عن تحديد موقفنا منه ومن كفره "قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ...." وستضعف حجتنا لديهم لأن التكفير وبخاصة تكفير من لم يحكم بما أنزل الله يبدو هو الصواب لمن هو قليل الفقه لأنه ظاهر الآية الكريمة: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وسيبدو الخلاف بيننا وبينهم اختلافاً فيما نأخذ به ويأخذون به من اجتهادات مختلفة لا يعني اختلافها أنهم على باطل.
أعتقد أن خلافنا معهم هو على قوله تعالى: "لا إكراه في الدين" وليس في أنهم جهاديون ولا في من نكفر من الناس ومن لا نكفره. هؤلاء إن أردنا الإنصاف أناس يجاهدون في سبيل الله وفق ما وصلنا من فقه السابقين الذي يصر على أننا مأمورون أن نقاتل الناس، كل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وعندها فقط تكون دماؤهم وأموالهم معصومة. لقد بينت فيما سبق من فصول هذا الكتاب أن الناس المقصودين في الحديث الشريف إنما هم مشركوا العرب في جزيرة العرب في زمن الرسالة، لكن لم يتبنَّ أحد من أئمتنا لا الشافعي ولا غيره هذا الفهم، بينما عمل الصحابة كان واضحاً ولم يختلفوا أبداً في أن دماء المشركين وأموالهم وأعراضهم معصومة باستثناء القبائل العربية التي كانت تسكن أرض العرب، ولم يسجل التاريخ أن المسلمين خيروا أحداً خارج أرض العرب بين الإسلام والقتل، على رغم شرك أقوام كثيرة تغلب عليها المسلمون وفتحوا بلدانها. هل منا من ينكر أن المجوس الذين يعبدون النار مشركون وأن الهندوس والبوذيين وعبدة الشيطان وغيرهم مشركون؟ هل أجمع صحابة رسول الله والتابعون على أن يخالفوا أمر رسول الله طمعاً في جزية يتقاضونها من الكافر المغلوب المصر على كفره؟ هل يعقل هذا؟ إن التاريخ يثبت أن كلمة الناس في هذا الحديث لا تعني البشرية كلها والاعتقاد أنها تعني كل البشر هو فهم خاطىء، حتى لو أصر عليه الشافعي أو غيره من الأئمة.
صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يطبقوا آية السيف على أحد من غير المشركين العرب في أرض العرب، ومن المستحيل أن يتواطؤوا كلهم على عدم تطبيق أوامر الله ورسوله من أجل جزية ضئيلة لا تؤخذ إلا من القادرين عليها.
خلافنا مع من نسميهم إرهابيين هو على جواز إكراه الناس في الدين أو وجوب ترك الحرية لهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. إن إرهاب عدو الله وعدو المؤمنين مطلوب بنص القرآن لذلك لن يفيد وصفنا لهم بالإرهابيين شيئاً عندهم وعند كل من يراهم مجاهدين مخلصين يقدمون أرواحهم في سبيل الله.
إن التوصيف الصحيح الذي لا يلتبس ولن تختلف فيه التعريفات هو أن هؤلاء إكراهيون، ننسبهم إلى الإكراه في الدين الذي ظنوا أن الله كلفهم به ليسوقوا الناس إلى الجنة سوقاً. ومع أن تراثنا الفقهي يحتوي اجتهادات فقهية كثيرة تفيد أن إكراه الناس أو إكراه المسلمين في الأمور الدينية شيء مرغوب بل مأمور به. يجب أن لا ندفن رؤوسنا في الرمال وننكر جذور المشكلة وأسباب العلة التي أصابت أمتنا في السنين الأخيرة. إن هؤلاء الإكراهيين أناس مخلصون في غالبيتهم يقدمون أرواحهم في سبيل استعادة الحكم بما أنزل الله، لكنهم ضحايا لاجتهادات عديدة في ديننا تحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر فيها لنتبين أن الإسلام دين الرحمة ودين الحرية ودين اللا إكراه في الدين، ولولا ذلك لما بقي في العراق أمة تعبد الشيطان ولا تدعي الإسلام والعراق كان حاضرة الخلافة العباسية. لقد مكث المسلمون حكاماً ومستوطنين في اللأندلس ثمانية قرون وعندما سقطت الأندلس بيد الفرنجة كان ما يزال حوالي نصف أهلها نصارى ويهود لم يتعرضوا لأي نوع من الإكراه في الدين، بل كان هنالك تقصير في دعوتهم وجذبهم إلى الإسلام.
علينا إن كنا فعلاً نريد تجاوز الإكراه في الدين الذي تفوقت فيه تنظيمات داعش والقاعدة وبوكو حرام وغيرها من تنظيمات إسلامية تسيء إلى الإسلام ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، علينا إعطاء مصداقية لما جاء في هذا الكتاب من فهم للإسلام يحترم حرية الناس ولا يكرههم في الدين على شيء. لا أقول أن تتبنى الأمة كل ما جاء فيه فالاختلاف طبيعة البشر ولن تتوحد الأمة على فهم واحد لهذا الدين إلى يوم الدين، إنما يمكن أن تقوم لجنة من العلماء بدراسته ويكفي إن وجدوه مفيداً أن يعلنوا أن الاجتهادات الواردة فيه هي اجتهادات مستساغة قد تكون صحيحة ولا حرج على من يشاء أن يأخذ بها.
كتاب الميزان هذا يحتوي تأصيلات لفهومات للإسلام من الممكن أن تكون مقنعة وتستطيع أن تواجه الإكراهيين وتثبت أن ما هم عليه ليس هو اليقين في فهم الإسلام وأن الإسلام يتسع لتدين قائم على اللا إكراه في الدين.
لن ننجح في تجفيف منابع الإرهاب الإكراهي ما لم نهز قناعات الأمة بفهوم لبعض نصوص القرآن والحديث الشريف يستخدمها الإكراهيون حججاً وأدلة على أن ما يرتكبونه هو الذي يرضي ربنا ويبرىء ذمتنا أمام خالقنا. لن تستطيع الحلول الأمنية والحروب أن تقضي على ما يسمى الإرهاب التكفيري، لأنك لن تخيف من يريد أن يموت، بل هو في عجلة من أمره، يريد الانتقال الفوري إلى الجنة ونعيمها، وحتى لو قضيتَ على أكبر عدد منهم، فإنك لن تقضي على المشكلة، لأن الأمة عائدة إلى دينها، وطالما اهتدى من المسلمين إلى الالتزام بهذا الدين أعداد كبيرة جديدة كل اليوم، وطالما تلقى هؤلاء العائدون إلى دينهم أو الداخلون الجدد فيه ما تراكم عندنا من تراث فقهي يؤصل للإكراه في الدين ولاستباحة دماء وأموال وأعراض كل من نعتبره مشركاً أو مرتداً أو كتابياً يأبى الدخول في الإسلام ويرفض أن يعطي الجزية عن يدٍ وهو صاغر، طالما استمر الحال على ما هو عليه، فإن كل إكراهي، أي إرهابي يُقتل أو يُؤسر، سيخلفه اثنان أو ثلاثة من المسلمين الذين يريدون اختصار الطريق إلى الجنة، وستكثر الضحايا منهم ومن الأمة ومن الأمم الأخرى.
أقولها ثانية: إنهم وضحاياهم ضحايا الموروث الفقهي الذي يقدم هؤلاء الشباب الإكراهيون الذي يسمون الإرهابيين أرواحهم رخيصة من أجل تحقيق بعضه في أرض الواقع، ومن يقتل على يديهم أو يؤذى هو ضحية جهاد نابع من هذا الفقه الموروث.
 الأمة تشعر أن ما يرتكبه الإكراهيون من أفعال تحرج المسلمين، وتضر بقضاياهم وبسمعتهم، وتنفر الناس من الإسلام، تشعر أنه لا يمكن أن يكون ديننا يأمر بهذا... لكن الموروث الفقهي عندنا يأمر بما يرتكبونه. ومشكلتهم الكبرى من منظور هذا الفقه، أنهم يأخذون بأشد الأحكام، ويطبقونها بقسوة لا رحمة فيها، ويستسهلون قتل الناس بناء على اجتهادات موروثة، كانت محض اجتهادات أي آراء للفقهاء القدامى تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب.

*                  3. ليسوا مجانين ولا سايكوباثيين
لابد لنا أيضاً ان نعلم أن هؤلاء الإكراهيون ليس منهم مرضى نفسيون أكثر مما من باقي الأمة، وأنهم ليسوا مجرمين يرتكبون ما يرتكبونه بدوافع إجرامية، حتى لو كان منهم أصحاب سوابق جنائية لكنهم تابوا واهتدوا أو دخلوا في الإسلام وهم في السجون. نعم من كان طبعه على مدى سنين طويلة أن لا يشعر بمعاناة البشر الآخرين ولا يتعاطف مع آلامهم، فيكون بلا ضمير، ويكون ممن لا يستحيون، ولا يلومون أنفسهم أبداً مهما ارتكبوا، من كانت هذه حاله ثم اهتدى إلى الإسلام، أو تاب وأراد أن يصلح، لن يكون من خيار الأمة حتى لو انخرط في الجهاد في سبيل الله مضحياً بحياته، ذلك أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قال: خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا، وبالمقابل يغلب أن يبقى شرارنا في جاهليتهم، شرارنا بعد عودتهم للدين، وتكون لديهم الجرأة على العدوان على الناس بقسوة، إن ظنوا أن الجهاد في سبيل الله يستدعي منهم ذلك، فيبطشون إذا بطشوا جبارين، ويميلون إلى الأخذ بالفتاوى القاسية التي تبيح لهم دماء الناس بحجة الشرك أو الردة أو الفساد في الأرض. لكن في الأغلب لن يصل هؤلاء إلى موقع القيادة والريادة وتوجيه المسار، لأن طباعهم تجعلهم عاجزين عن القيادة والتخطيط المتروي، ويغلب أن تكون لديهم مشاعر إيمانية شديدة بلا فقه على الإطلاق أو بفقه قليل، وبطبعهم الأصيل الميال للعدوان فإنهم يكونون مجاهدين سيئين عندما يجاهدون. المهم هؤلاء ليسوا الأغلبية بل قد تضم أغلبية الإرهابيين الإكراهيين بعضاً من خيرة رجال ونساء هذه الأمة من حيث الإخلاص والرغبة في رضوان الله.
لن ننجح في القضاء على شرورهم ما لم نعرفهم ونفهمهم جيداً، لنعرف كيف نتعامل معهم بحيث يكفون عن عدوانهم أو يُقتلون أو يؤسرون. ويجب أن لا يدفعنا كرهنا لهم إلى أن لا نكون منصفين.. إنه متوقع من الحكام الذين يستشعرون من هؤلاء الإكراهيين الخطورة على مناصبهم أن يكون عداؤهم لهم شديداً، لكن الإنصاف والواقعية والتعامل الإسلامي الحق معهم هو الذي يدفع خطرهم وضررهم عنا جميعاً حكاماً ومحكومين.

*                  4. بُغاة لا مجرمون
علينا أن نعاملهم على أنهم بغاة ونطبق عليهم أحكام البغاة لا أحكام المجرمين الجنائيين، وعلينا أن لا نعذب أحداً منهم أو نظن أنه منهم مهما بدا لنا أن المعلومات التي سننتزعها منه مهمة ومفيدة. لأن قسوة الجهات الأمنية في كثير من البلدان المسلمة ولدت حقداً في نفوس من تقع عليهم هذه القسوة وفي قلوب أهليهم وأصحابهم ومن لا يعلمون عنهم إلا خيراً باستثناء جهادهم الإكراهي الإرهابي. هذه الأحقاد تجعل الكثير من المسلمين يأخذون بالاجتهاد الذي يرى الحكام ورجال أمنهم الذين لا يتورعون عن البطش بلا رحمة وعن العدوان على المشتبه بهم،  وعلى الذين وقعوا في الأسر منهم، يراهم كفاراً أو مرتدين أو منافقين، فتفرخ هذه الأحقاد إرهابيين إكراهيين جدداً، وتستمر السلسة لا انقطاع لها وتدوم معاناتنا وخسائرنا.
إن كانت هنالك شبهة كبيرة في أن واحداً من الناس هو منهم ويخشى خطره، فإن ديننا يحتم علينا إن ارتأينا أن نسجنه لنكف أذاه المحتمل، أن نعامله برحمة، إذ قد يكون بريئاً، وحتى لو كان منهم، فإنه باغ متأول يكفينا سجنه ولو مدى الحياة، لكن دون أن نعتدي عليه بالتعذيب الجسدي أو النفسي أو حبسه في ظروف غير إنسانية، كما لا داعي لاتقاء شره بإعدامه، بل يمكن بناء سجون تكون الحياة فيها لائقة بالبشر،  وتكون فترة سجنهم فرصة لمحاولة إصلاحهم وإقناعهم بالاجتهادات التي يحتملها ديننا وتنهى عن الإكراه في الدين بإطلاق، ولا تنسى دولنا زوجاتهم واطفالهم، سواء كانوا إرهابيين إكراهيين، أو كانوا مشتبهاً بهم فحسب، فتنفق عليهم وترعاهم.
 لن ينصلح الجميع بالتأكيد، لكن لو عاملناهم على أنهم إخواننا بغوا علينا، متأولين اجتهاداً فقهياً موجوداً في تراثنا، أو ابتدعه أحد من المعاصرين، فإننا سننجح أكثر في إصلاحهم، وسيتشجع من تصله رسائلنا الإصلاحية على أن يتركهم، ويعود إلى الصواب، لأنه يأمن على نفسه من أن يُقتل أو يُعذب، تماماً كما هو حكم المفسدين في الأرض، الذين يقطعون الطريق، ويشكلون عصابات مسلحة، تقتل وتسرق وتغتصب، فإنهم تسقط عنهم عقوبة الدنيا إن هم تابوا من قبل أن نأسرهم ونقدر عليهم. وما ذلك استهانة من ربنا بحقوق ضحاياهم، إنما هو إبقاء لخط رجعة لهم، يسهل توبة من يقرر التوبة منهم، بدل أن يدفعه خوفه من العقاب على ما ارتكب من جرائم إلى أن يستميت في الدفاع عن نفسه، كي لا نأسره، ويُفضِّل أن يقاتل المجتمع حتى يُقتل أو يموت، وهو في دفاعه المستميت عن نفسه، يقتل ويسرق ويغتصب أعداداً كبيرة من الأبرياء، الذين ما كانوا ليصيبهم الأذى لو كان قد تاب من قبل أن تجمعهم به الأقدار.


*                  5. إكراهيون وإرهابيون
مفهوم الإرهاب فيه غموض وعدم تحديد، بحيث يراه أغلب المسلمين المتدينين، مجرد تسمية قبيحة للجهاد في سبيل الله، لا تضر من صدق النية وباع نفسه لله، يقاتل في سبيله، فيقتُل أو يُقتل. إننا عندما نقول عنهم إرهابيين، ونحاربهم نريد استئصالهم لأنهم إرهابيون، نكون قد أسدينا لهم خدمة عظيمة، لأن أغلبهم وأغلب المتدينين لا يميزون بين الجهاد والإرهاب.
 والأنكى من ذلك أنهم يُحارَبون لأنهم جهاديون، وهم وباقي المؤمنين المتدينين يرون الجهاد أحب الأعمال إلى الله بعد الإيمان به. إن مهاجمتنا لهم بحجة أنهم جهاديون إرهابيون تكفيريون تجعلهم أكثر إصراراً على ضلالهم، وتُكسبهم تعاطفاً أكبر من المتدينين في أنحاء العالم كلها، بحيث لا تنقطع عنهم المعونات المالية، وبحيث ينضم إليهم كل يوم المزيد من شباب هذه الأمة.
بالمقابل عندما نعيب عليهم أنهم إكراهيون ونبين لهم بالأدلة الشرعية القوية أن الأصل في الإسلام هو "اللاإكراه في الدين"، ونستفيد من كتابي هذا في تأصيل هذا المبدأ العظيم، ونروّج للاإكراه في الدين في وسائل الإعلام، وفي المناهج الدراسية، ليتسع أفق المسلم المعاصر، وليرى هؤلاء الإكراهيين مخطئين رغم صدق نياتهم ونبل أهدافهم، فإننا سننجح بعون الله نجاحاً عظيماً في تجفيف منابعهم، وفي جعلهم مجرد ظاهرة وموجة، مرت بها أمة الإسلام وتجاوزتها، ولن تقع فيها من جديد أبداً.
الجهاد عبادة عظيمة في الإسلام، والمسلم المخلص لن يثبطه أن نسمي الجهاد في سبيل الله إرهاباً، ولن تنفّر هذه التسمية ملايين الشباب المسلم العائد إلى دين الله، فلا ينضم إليهم ولا يؤازرهم بالمال والجهد والخبرة.. بينما الإكراه في الدين شيء بغيض تستنكره الفطر السوية للمسلم وغير المسلم، وبخاصة إن أثبتنا للناس أن الظن أن الإكراه في الدين مرغوب ومطلوب في دين الله ظن خاطىء.
  إن محاربة فكر الإكراه في الدين لا محاربة "الجهاد من أجل تطبيق الشريعة" لن تستثير غَيْرة الكثيرين ليدافعوا عنه. بل محاربة الإكراه في الدين بهذا الوضوح، سينهض بالأمة إلى درجة أعلى وأرقى في فهم دين الله كما أراده الله. وسيجعل الأمة -ممثلة في متدينيها وإسلامييها- تتبنى إيديولوجيا جديدة، فتسعى لاستعادة عزة المسلمين، ولتحكيم شرع الله، لكن دون إكراه، بل ستكون إيديولوجيا قائمة على الإيمان، بحرية الإنسان المستخلف في الأرض، والمسؤول عن خياراته وأعماله.
لا يمكن أن نقضي على الضلال ما لم ننشر الهداية، ولن نقضي على الزنا ما لم نيسر الزواج، ولن نقضي على الربا ما لم نيسر التجارة والاستثمار الحلال. لا بد من ملء الفراغ الذي ينشأ، عندما يزول الباطل، فالباطل كالظلام، لا يمكن طرده إلا بإحلال النور محله.
إن المصلحة تقتضي ترويج فكر اللاإكراه في الدين حتى لو كانت قناعتنا به لم تكتمل ولم تترسخ، لأن خطر الإكراهيين علينا جميعاً خطر عظيم، سيقضي علينا إن لم نقضِ عليه نحن أولاً. علينا أن نتجاوز تعصبنا لمذاهبنا المختلفة، ونتخلص من فرح كل حزب منا بما لديهم، أي اختيالهم وفخرهم بما عندهم، وازدراؤهم للآراء المخالفة التي تقوم عليها المذاهب الأخرى، فتعمى الأبصار وتُصَم الأسماع عن الحق الذي لا نجاة لهذه الأمة، وللبشرية من ورائها إلا باتباعه.

*                  6. الإسلام المعتدل
إن أعداء الأمة ومعهم أصدقاؤها المتضررون من جهاد الإكراهيين، يدعونها إلى تطوير فهم معتدل للإسلام، ليبرالياً أو غير ليبرالي، بحيث يصبح إسلاماً مسالماً لا مخالب له، وهم لا يدركون أنه دين، وأن ليّ أعناق نصوصه، ونشر الفهوم المرجوحة لها، عن قصد وتعمد، إنما هو خروج من هذا الدين، واختراع لدين وضعي بشري بدلاً عنه، لا ينفعنا في آخرتنا، ولن يقبله الله منا، بل سيكون رداً علينا.
كتابي هذا يبين ان العودة إلى النصوص وفهمها فهما مباشراً لا تأويل فيه، ولا يخرجها عن سياقها التاريخي، ولا عن سياقها ضمن المنظومة الفكرية المتكاملة للإسلام، هو الخلاص مما نحن فيه، وهو العودة إلى الاعتدال الذي أفقدنا إياه، سوء فهم أجدادنا لبعض النصوص، عندما بنوا فقههم على أصول قائمة على الفلسفة والمنطق، اللذين دخلا في صميم فهم المسلمين لدينهم، وقامت علوم اللغة عليهما، ليقوم الفقه على علوم اللغة، وعلى أصول اجتهد فقهاء متأثرين بها في وضعها، فجعلت العِبرة في "عموم اللفظ"، لا في "خصوص السبب"، منتزعة بذلك النصوص من سياقها ضمن منظومة الإسلام ككل، ومن سياقها التاريخي الذي لا يمكن فهمها الفهم الصحيح دون اعتباره، وسيكون فهمنا لها مدعاة للغلو والتطرف عندما ننزع النص من سياقه ونستنتج منه مبادىء شاملة ومُطلقة، ثم نأخذ بها، ونؤوّل النصوص الباقية في ضوئها، هذه المبادىء التي نظنها الحق وهي ليست منه.

 إنها السلفية الإسلامية عندما تبلغ أعلى وأرقى درجاتها، فتصبح "سلفية نَصِّيّة" تقرأ نصوص الإسلام من جديد ضمن سياقاتها الطبيعية، فتدرك أن كلمة "الناس" مثلاً، لا تعني البشرية كلها في كل نص جاءت ضمنه، وأنها كانت بلغة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تعني أهل قرية من القرى أو حي من الأحياء أو حتى أمة بعينها لا تتعداها إلى غيرها، فنعلم أن الناس في القرآن والحديث الصحيح قد تعني العرب الذين فيهم بُعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو حتى بعضهم "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم"، ونفقه ديننا كما فقهه الصحابة الذين تركوا لنا تاريخهم، ولم يتركوا لنا كتباً ولا مراجع تفلسف فقههم وتضع له الأصول.. وبالتأكيد لن نختلف على أن الصحابة الذين فتحوا أصقاع العالم القديم، ووصلوا إلى مشرقه ومغربه، لم يُكرهوا مشركاً واحداً على الإسلام خارج أرض العرب، ولم يخيِّروا أحداً بين الإسلام والقتل سوى مشركي العرب في جزيرة العرب حصراً. لا نحتاج إلى أصول يجتهد العقل البشري في وضعها ليصبح أسيراً لها، فلا يفهم نصاً قرآنياً أو نبوياً إلا وفقها، حتى لو كانت البداهة الإنسانية  common sense  تنكر هذا الفهم وتتعارض معه.

Wednesday, May 28, 2014



بسم الله الرحمن الرحيم

لقد آن الأوان أيها السوريون

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف
استشاري الطب النفسي في
مستشفى الصحة النفسية بنجران،
المملكة العربية السعودية

في 01/10/2011 نشرت على النت أول مقالاتي عن الثورة السورية  بعنوان "ما يجري في سورية: إلى أين؟" وبعد أسبوعين نشرت المقال الثاني بعنوان " ما لنا غيرك يا الله" ثم جمعتهما في كتيب PDF بعنوان "ثورة لكل السوريين" وعملت على إيصاله لأكبر عدد من السوريين عبر الفيسبوك ومن خلال مواقع سورية كبيرة تحمست له. في هذين المقالين نبهت إلى أن ثورتي مصر وتونس نجحتا بسهولة لأن القوى التي تحكم البلدين من خلال قادة جيوشهما أسرعتا بإسقاط الرئيسين المكروهين لتحولا دون انتشار الثورة في الجيشين  فيشارك فيها صغار ضباط الجيشين مما يعني إن نجحت الثورة خروج تونس ومصر من قبضة فرنسا والولايات المتحدة. وبينت أن ثورتنا ليست ثورة دينية سنية ضد الطائفة العلوية، وأن مشكلتنا مع هذه الطائفة ليست دينية، إنما هو صراع معيشي، وهو صراع مع نظام استأثر بخيرات البلاد، واستخدم العلويين أجناداً في الجيش والمخابرات، لأنه لا يثق بغيرهم، لا لأنهم طائفة دينية توحدها معتقداتها، بل لأنهم بالدرجة الأولى عشائر وأهل منطقة واحدة تجعلهم يدافعون عن نظام انتشلهم من الفقر المدقع إلى الفقر غير المدقع، وحرص على بقائهم قليلي العلم، حتى لا يكون أمام أكثر شبابهم خير من التطوع في الجيش أو المخابرات. يومها بيّنت أن طوق النجاة للنظام هو تحوّل الثورة إلى جهادية مسلحة وطائفية، لأنه يستطيع وقتها أن يضمن أن لا تتخلى عنه الطائفة العلوية، بل يصبح دفاعها عنه دفاعاً عن وجودها وبقائها، كما يكسبه حياد بل تأييد الطوائف الأخرى، وقد أكسبه أيضاً كما تبين بعد ذلك تأييد شيعة العالم كلهم. كنت أريدها ثورة لكل السوريين، وطنية، ليس لها صبغة طائفية، ولا حتى دينية، وأريدها سلمية مما يجعل جرائم النظام غير مبررة في نظر الملايين التي تتابع ما يحدث،  ويفقده بالتأكيد الكثير من شعبيته، ويسرِّع سقوطه الجزئي على يد ضباط كبار من الطائفة العلوية، وبذلك تنتقل سورية من حال سيئة إلى حال أقل سوءاً، ويكون ذلك خطوة رائعة ونقلة كبيرة نحو بناء دولة تكون لكل السوريين. وحذرت في المقالين كثيراً من تحول الثورة إلى مسلحة وطائفية لأن ذلك يعني حرباً أهلية طويلة يصبح تقسيم سورية بعد دمارها هو الأمل والمخرج الوحيد، وحذرت أن إسرائيل لديها هدف استراتيجي واحد هو تقسيم بلاد الشام والعراق إلى دويلات طائفية متناحرة مما يجعل الدولة اليهودية قطعة غير متنافرة بين بقية قطع اللوحة الفسيفسائية التي ستتكون من الدويلات الطائفية. أما الولايات المتحدة فهي دائماً مسخرة لتلبية رغبات إسرائيل وبالتالي هي تابعة لها في الحرص على تقسيم المنطقة وبينت أن مصلحة الأمة هي في بقاء الثورة وطنية وسلمية.

للأسف قامت قوى اقليمية ودولية باستغلال السوريين وثورتهم من أجل التصدي للخطر الإيراني ونفوذ إيران الممتد على شكل هلال شيعي من إيران إلى العراق فسورية فلبنان، وحرصت هذه القوى السنية ومعها الولايات المتحدة على تسليح الثورة، وعلى إثارة الحميّة الطائفية لاستنفار السوريين السنّة كلهم إن أمكن، مما يعني ضربة قوية لإيران ونفوذها في المنطقة. وقد ساعد ذلك في تحقيق هدف النظام الاستراتيجي وهو تحول الثورة إلى مسلحة وجهادية وطائفية، مما أعطاه الأمل في البقاء، وربما في سحق الثورة. لا لوم على القوى السنية في المنطقة التي اغتنمت الثورة السورية لتحجم النفوذ الإيراني ولتبعد خطره عنها، ولا لوم على السوريين الذي تحملوا القتل لكن لم يتحملوا المذلة وبخاصة الاغتصاب المنظم لنسائهم، فحملوا السلاح للدفاع، ثم انزلقوا إلى المبادرة والهجوم، وبذلك فقدت الثورة سلميتها بالكامل. نجحت الثورة المسلحة في السيطرة على نصف سورية الشرقي وكله سني تقريباً، وتم فيه القضاء على النظام والقضاء معه على الدولة والبنية التحتية كلها تقريباً، وكان الأمل كبيراً أن سقوط النظام سيكون خلال أسابيع قليلة. وفي 22/10/2012 نشرت مقالي السادس عن الثورة بعنوان "ثورة سلمية محمية"، وفيه دعوت إلى قطف ثمار الانتصار والرضى بالقليل المضمون، ونبهت إلى أن سقوط النظام كلياً ليس في مصلحة إسرائيل ولا أمريكا، لأن بديلاً مضمون الولاء لهما غير متوفر، ولأن سقوطه يعني بقاء سورية موحدة، وإسرائيل لا تريد لها أن تعود موحدة أبداً، ونبهت إلى أنهم سيتحكمون بالثورة بحيث تدوم دون أن تنتصر، مما يهيء لتقسيم الأراضي المحررة ربما لدويلات أربعة. وفيه  قلت إنه سيأتي يوم تتوقف فيه الانتصارات ويصبح الحفاظ على ما في أيدينا هو النصر الوحيد وثمنه استنزاف الثورة، وقتل ودمار يوميان، لا نعرف متى ينتهيان. أصدقائي الذين قرؤوا ماكتبت استغربوه واعتبروه ضعفاً وانهزاماً لا مبرر له، فقلت لهم: "أدعو الله من كل قلبي أن أكون غلطاناً وأن لا تصدق توقعاتي".. لكنها للأسف صدقت.

منذ تلك الفترة والثورة والنظام في كرٍّ  وفرٍّ ولا يستطيع أي منهما أن يحسم الحرب لصالحه.. ثم ذات ليلة ارتكب النظام غلطته الكبرى عندما استعمل الكيماوي على نطاق واسع جداً لم يستطع إخفاءه، وهددت الولايات المتحدة بضرب البنية التحتية العسكرية للمناطق المتبقية مع النظام، مما يجعله ضعيفاً أمام الثوار، ويعرضه بشدة لخطر السقوط. سقوط النظام وتحول سورية كلها إلى دولة سنية تقف في وجه النفوذ والتمدد الإيراني خسارة كبرى لإيران بكل معنى الكلمة، لذا سارعت إيران إلى افتداء النظام بتخليها مؤقتاً عن حلمها النووي العسكري، وسلم النظام سلاحه الكيماوي، وهما مطلبان استراتيجيان لإسرائل، حصلت عليهما دون أن تطلق هي أو الولايات المتحدة طلقة واحدة، وعندي حدس لا دليل لدي عليه حتى الآن أن الصفقة شملت التنازل غير المعلن عن الجولان..

اختلف الموقف بعدها وشعر النظام بالانتصار وبالأمان من جهة المعسكر الغربي وإسرائيل، فازداد شراسة، وانتزع من الثوار أراض حساسة بالتأكيد كانت ضمن الصفقة، لأن القوى الداعمة للثورة المسلحة امتنعت عن تقديم الدعم للثوار في تلك المناطق كما حدث في القصير، حتى تمكن النظام من استرجاعها. ومن يومها صار رفض الغرب لتسليح الثوار بأسلحة فتاكة تحسم المعركة أو على الأقل تحيّد سلاح الطيران السوري معلناً يصرحون به كل يوم، ومع ذلك استمر الوهم لدى الثوار المسلحين بحتمية الانتصار وتحرير باقي سورية، ودخلت المعارضة السياسية، أي الائتلاف وغيره، في وهم آخر، وهو أن النظام سيقبل بحكومة انتقالية وبانتقال تدريجي وسلمي للسلطة من النظام إلى قوى سورية وطنية منتخبة.. سيطر هذا الوهم مع أنه كان واضحاً ومازال أن النظام ليس مضطراً للقبول بذلك. لم يكن النظام يستشعر القدرة على الاستخفاف بمطالب المعارضة السياسية فحسب بل سيطر عليه ومايزال الغرور والوهم أنه سيسحق الثورة وسيستعيد كل المناطق المحررة.

الحرب مستمرة والأوهام مسيطرة على الأطراف كلها، الثورة المسلحة والمعارضة السياسية، والنظام، بينما يسقط كل يوم أعداد كبيرة بين قتيل وجريح ومشرد، وتطول حياة السوريين المُذلّة في المخيمات في دول الجوار، وتطول معاناة ملايين النازحين داخل سورية هرباً من براميل النظام المتفجرة، ثم ظهرت داعش لتضيف لمعاناة السوريين ما لم يكونوا يتوقعونه، ولتجعل الكثيرين منهم يجدون البقاء تحت حكم النظام أقل سوءاً من أن يحكمهم جهاديون، يقلدون الماضي الإسلامي تقليداً كاريكاتورياً، فينفرون الناس من الشريعة، ويخدمون النظام خدمة ربما لم يكن يحلم بها. الفصائل في الداخل متناحرة والمعارضة في الخارج تحت ضغوط دولية لترضى بالجلوس مع النظام على مائدة المفاوضات مهما كانت هذه المفاوضات عبثية وغير مجدية، وملايين السوريين يعانون وينتظرون الفرج. ومن جنيف واحد إلى جنيف اثنين، وجنيف ثلاثة على الطريق، ولا نهاية للقتل والدمار والموت جوعاً ومن فقد الدواء، وسيطرت الفوضى في المناطق المحررة، والجريمة المنظمة في مناطق النظام، وكلنا أمل أن نوقف الانتخابات الرئاسية التي سيفوز فيها الأسد حتى لو لم تزوّر نتائجها، والأمل أن يخضع النظام للمطالب، وتُشَكّل حكومة انتقالية لتنتقل السلطة في سورية كلها إلى حكومة وطنية منتخبة.

القوى المعادية لإيران لن تسمح باستعادة النظام للنصف الشرقي السنّي من سورية، ولن يتخلوا عن الانتصار الجزئي الذي حققوه على إيران بانتزاعهم مناطق منها تقوم فيها دولة سنية تقسم الهلال الشيعي وتنهي تواصله الجغرافي، وتكون دولة موالية للقوى السنّية في المنطقة، تركيا وغيرها، وصديقة للولايات المتحدة، وبعد ذلك متصالحة مع إسرائيل. هذا هدف استراتيجي لهم، ولن يتخلوا عنه بعد أن حصلوا عليه، وبالمقابل لن تسمح إيران والقوى الشيعية ومن ورائهما الشرق والغرب أن يسقط النظام الذي بالتأكيد بعد هزيمته سيتحول من نظام ممانع إلى نظام مطاوع، بحكم ضعفه واحتياجه لمهادنة إسرائيل والقوى الغربية، من أجل البقاء ولو على نصف سورية. أنا متأكد أن النظام بغروره الأحمق وبنزعته القومية التي تفوقت عليها الآن نزعة شيعية مستجدة لا يغذيها الإيمان الديني بل المصالح السياسية، سيحارب بشراسة من أجل استعادة المناطق المحررة أو على الأقل تدميرها. إنني لا أرى مخرجاً للسوريين على جانبي الصراع إلى أن نتخلص من الأوهام ونهبط إلى أرض الواقع، فندرك أنه لا أمل للثورة في حسم المعركة واسقاط النظام، وأنه من البلاهة الاعتقاد أن النظام سيستجيب للضغوط الكلامية التي يطلقها الغرب، فيرضى بتسليم السلطة لحكومة انتقالية ذات سلطة فعلية، ومن جهة أخرى أن يفهم النظام أنه لن يستعيد سورية موحدة تحت سلطته أبداً، بل ستبقى المناطق المحررة خارج سلطته، وستبقى المعارك كرّاً وفرّاً، وعملياً سيبقى الطرفان يراوحان كل في مكانه، والخاسر الوحيد هو ملايين السوريين الذين سيعانون أقسى أنواع المعاناة لكن دون نتيجة وبلا ثمرة. لو كان استمرار المعارك سنة أو سنتين أخريين سيؤدي في نهايته إلى سقوط النظام لرضينا أن تستمر التضحيات والمعاناة، لكن مع فهمنا للواقع وعلمنا أن "الكَثْرة تغلب الشجاعة"، ومع اعترافنا أننا لم نبلغ المستوى الذي ينصرنا فيه الله رغم ضعفنا، فإن الحكمة والمصلحة تقتضيان إعلان المناطق المحررة دولة مستقلة، تنال الاعتراف الأممي والحق في أن يحميها المجتمع الدولي من النظام واعتداءته اليومية، وربما بإرسال قوات مراقبة أو فصل دولية، تساهم في منع استمرار النظام في إمطار المناطق المحررة بالبراميل المتفجرة، وبما تبقى لديه من أسلحة كيماوية، كما عندها ستزود أمريكا هذه الدولة بما يُسقط طائرات النظام، لأن إعلان الدولة يعني أنها ستبقى ضمن حدودها دون أن تسعى إلى التمدد على حساب النظام وتعريضه لخطر السقوط. وتبدأ هذه الدولة الجديدة عملية بناء البنية التحتية التي دُمّرت كلها، سواء على مستوى الأشياء التي تقوم على الأرض، أو على مستوى المؤسسات الحكومية التي فقدت نهائياً.. كما يمكن لهذه الدولة أن تنتزع وتبطل أية شرعية تدعيها داعش وغيرها ممن يفرضون أنفسهم ولاة وقَيّمين على الشعب السوري في المناطق المحررة، ويمكنها أن تطرد داعش ومن والاها خارج أرضها، ليعود الحد الأدنى من الأمان للسوريين. ومن ناحية أخرى فإن التفاوض مع النظام ونحن دولة معترف بها وذات مؤسسات على الأرض خير ألف مرة من التفاوض معه كمعارضة يعترف بها أو لا يعترف وتمثل الداخل أولا تمثله.. إنه حتى الآن تعتبر الأمم المتحدة الأراضي المحررة تحت سيادة الدولة السورية التي يحكمها النظام ولا تدخل المعونات الإنسانية إليها إلا إن أذن النظام لها ، بينما لو كنا دولة لتوقفوا عن انتظار موافقة النظام على دخول المساعدات. إن الوضع القانوني لدولة معلنة ومعترف بها لا يقارن بوضع معارضة مفرقة لا يأتمر فيها المقاتل بأمر السياسي، وليس السياسي موضع ثقة المقاتل، ولا خطة موحدة لعمل الفريقين.

ستقولون هذا تنازل ورضىً بالتقسيم الذي هو خط أحمر بالنسبة لجميع السوريين، وستستنكرون دعوتي هذه ومنكم من سيتهمني بالخيانة، ولذلك بدأت بالمقدمة الطويلة عما سبقت فيه الجميع، من دق ناقوس الخطر، والتحذير من أن يأتي يوم يصبح التقسيم مطلباً لنا، والمحزن أن هذا اليوم قد جاء..

سورية مقسمة الآن، ولكنه تقسيم غير معلن، وغير معترف به، وكثيرون يظنون أنه مادام غير معلنٍ وغير معترفٍ به، فإنه غير قائم ولا موجود. هذا الإنكار هو من وسائل النفس البشرية عندما تواجه ما يفوق احتمالها من المصائب، لكنه مجرد تخدير للمشاعر ودفن للرؤوس في الرمال، ولن يغني عنا شيئاً، ولن يساعد على عودة سورية موحدة تحت سلطة الثورة أو تحت سلطة النظام. إن المكابرة وإنكار الواقع لن تأتيان إلا بالمزيد من القتل والدمار والتشرد وتعطُّل حياة ملايين السوريين، وسيؤدي استمرار الاحتراب ليس إلى ترسيخ انفصال المناطق المحررة فحسب، بل وهذا ما أخشاه كثيراً، إلى تفتيت هذه المناطق وقيام دويلات عديدة فيها. إن الواقعية يمكن أن تحول دون بلوغنا هذه المرحلة، وستحافظ على المحرّر من سورية دولة واحدة، يمكنها أن تتحد مع سورية المتبقية في قبضة النظام، وذلك حين تتغلب أمتنا على جهلها، وتصبح وحدة العرب عموماً حتمية، وبالأولى وحدة السوريين. التقسيم الذي وصلنا إليه مطلب إسرائيلي، وبالتالي هو ما تريده أمريكا وغيرها من القوى الكبرى، ولا أمل في عودة عقارب الساعة إلى الوراء. لقد وقعت المصيبة، والحكمة هي في إيقافها عند الحد الذي بلغته، والحيلولة دون تحولها إلى مصيبة أكبر بكثير. المقاتلون يريدون استمرار القتال لأنهم يريدون إحدى الحسنيين، إما النصر وإما الشهادة، وحتى لو بدا النصر بعيداً جداً فإن الشهادة صارت لهم غاية بحد ذاتها، وهم بذلك يفرضون على ملايين السوريين استمرار المعاناة التي لا طائل من ورائها. ملايين السوريين هؤلاء لا يريدون الوصول إلى الجنة من طريق الموت والاستشهاد، والصالحون منهم يسعون إلى الجنة لكن بطرقها الأخرى، وليس من حق القلة المقاتلة أن تفرض رؤيتها عليهم، ما دمنا نسعى إلى الديمقراطية، وإلى أن تقرر الأمة مصيرها بنفسها، لا أن يتحكم بها من يفرض نفسه عليها ولياً لأمرها، كما لو كانت أمة من الأطفال الذين لم يبلغوا رشدهم وقد يقررون ما يضرهم ولا ينفعهم. وعلينا أن ندرك الخطر العظيم لاستمرار الاحتراب والنزوح والتشرد وتعطل فعاليات الحياة والفقر والجوع على أخلاق الملايين وقيمهم. اسألوا علماء الاجتماع وسيخبرونكم كيف تتبدل القيم بسرعة عند الأزمات الطويلة والطاحنة. لابد من التوقف حيث نحن لنحمي أخلاق الملايين من السوريين، ونحمي إيمانهم بقيمهم الأصيلة، وإلا سيكون الفساد وانكسار الحواجز الأخلاقية، وسيكون معه ما ينتج عنه، مما يجعل الخسارة والمصيبة مضاعفة.

ولكن هل ستوافق القوى الدولية والاقليمية على تكريس التقسيم القائم الآن، وهل سيوافق النظام على ذلك، وهل ستقوم في المناطق المحررة دولة قادرة على البقاء؟ أسئلة سمعتها من بعض الأحرار الذين ناقشت معهم رؤيتي هذه للخروج من الأزمة. أولاً لا تقلقوا فالقوى السنية في المنطقة ستدعم قيام هذه الدولة لأنها ستقسم الهلال الشيعي، وإسرائيل والغرب سيدعمان قيامها، لأن ترسيخ التقسيم مطلب ومصلحة كبرى لإسرائيل، وبخاصة بعد الربيع العربي، الذي أعلن عن استيقاظ الأمة من سباتها ومن عطالتها.. ثم إن الباقي تحت النظام من سورية، سيكون دولة طوائف، كما هو لبنان دولة طوائف، لأن عدداً كبيراً من السنة السوريين سيخرجون من الحسبة، وسينخفض نسبة السنة وترتفع نسب الطوائف الأخرى بعد أن ينسلخ الجزء المحرر بسكانه الذين هم في غالبهم سنة، وستبقى الطوائف الأخرى كلها بما فيها الباقون من السنة في سورية الباقية بيد النظام، وهذا يُشْعر الطوائف بالأمان، وبخاصة بعد مسلسل الترهيب الذي نجح النظام فيه، وأعانته عليه داعش ومن والاها من القوى الجهادية التكفيرية، وسيبدو الأمر وكأنه انجاز للقوى الدولية، إذ هي ضمنت بذلك أن لا يتعرض غير السنة في سورية للاضطهاد، وألا يُصنَّف المسيحيون السوريون كذميين يؤدون الجزية ولا يتمتعون بالمواطنة الكاملة. الشيء الوحيد الذي يجب أن تحرص عليه الدولة الناشئة هو أن يكون لها منفذ على البحر، وعليها بذل ما تستطيع للحصول عليه، ولن تمانع القوى العظمى في ذلك، لأن ذلك لا يعني سقوط الساحل كله بيد المعارضة ولا سقوط النظام. أما الذين يخافون أن يكون ذلك مقدمة لقيام الدويلة العلوية فعليهم أن يعلموا أن دمشق أكثر أهمية لهم وهم أحرص على البقاء فيها من القرداحة ذاتها، لقد عمروا وتاجروا وتعودوا على الحياة في دمشق، بينما مناطقهم مهملة مثل كل سورية، وليس لهم فيها آفاق العيش التي في دمشق.. كما لن تسمح لهم إيران أن ينكفئوا إلى دويلة علوية لتقوم في دمشق دويلة لا تكون موالية لإيران. لا داعي لأن يقيم العلويون دويلتهم طالما أن ما تبقى من سورية مع النظام سيكون بمثابة دولة علوية موسعة، وهذا من جهة أخرى سيساعد على بقاء العلويين الذين يدافعون عن النظام لأنه قومي عروبي وحدوي وممانع مخدوعين، لأن دولة تضم الطوائف السورية كلها مقابل، دولة سنية انفصلت وقامت بدعم من قوى خارجية غير سورية، ستكون أكبر برهان على صدق النظام في كل ما ادعاه من أكاذيب استخفت بالعقول.

في لقاء جمعني مع الشيخ أسامة الرفاعي في بيت ابنته في جدة قبل ثلاثة أسابيع سألته عن رؤيته، فوجدته متفائلاً بانتصار الثورة المسلحة إن هم أطاعوه وتوحدوا صفاً واحداً تحت قيادة موحدة. سألته إن كان لديه أمل حقيقي، وهو المتفرغ لمحاولة توحيد الفصائل المقاتلة، فأجابني أن هنالك عائقاً كبيراً أمام ذلك، وهو النفوس وما فيها من أهواء مستحكمة، فأضفت أنا أن الكثير من الفصائل معتمدة مالياً، وبالتالي في طعامها وسلاحها ودوائها على قوىً خارجية، ومن هذه القوى من لا يريد للفصائل أن تتوحد، وهذا يجعل التوحيد الذي يتمناه الشيخ أسامة أقرب إلى المستحيل. بعدها أخبرته بمخاوفي من أن تستمر الحرب عشرات السنين دون حسم، وبإيماني أن الأوان قد آن لنوقف الصراع، ونتجه نحو البناء، والعودة إلى الحياة الطبيعية، ولو كان ذلك يعني إعلان تقسيم سورية إلى دولتين، وهو تقسيم قائم على الأرض، ولا ينكره إلا مكابر أو حالم.  فأجابني أن هذه الرؤية قد تكون موجودة عند السياسيين في المعارضة السورية، لكن لن يجرؤ أي منهم على البوح بها، لأن ذلك سيعني احتراق ورقته، وسقوطه سياسياً، وتصنيفه على أنه خائن وعميل. شيخنا حفظه الله على صواب في ذلك، لذا، وبما أنني لست سياسياً على الإطلاق، ولا أحلم أبداً أن أقوم بدور سياسي مهما صغر، بل سأبقى إن شاء الله في مهنتي طبيباً نفسياً ومفكراً إسلامياً، فإنني استخرت الله سبع مرات على كسر هذا الحاجز، كما أفعل عادة عند كل أمر هام في حياتي، فانشرح صدري لأكون أول من يعلن هذا التصور لحل أزمة السوريين وحقن دمائهم وحفظ ما تبقى من بيوتهم وأموالهم. إن مقالاتي عن الثورة السورية ما تزال كما هي يوم نشرتها بالاسم المستعار "الدكتور محمد ناصح عبد الله" موجودة على النت، وقد جمعتها في كتاب أسميته "مقالاتي: بصائر سياسية إسلامية للثورة السورية".. لم أغير شيئاً في المقالات الأولى، اللهم إلا أنني حذفت عبارات قليلة كنت أعتبر فيها الدفاع عن النفس خروجاً محرماً، لكن الله أنار بصيرتي ووصلت لما أرانيه صواباً وضمنته في كتابي "الميزان: تجديد نظرية الإسلام السياسية" أي جواز الدفاع عن النفس في وجه أي معتدٍ..
أي باختصار، من أراد أن يخوّنني ويحمّلني مسؤولية التقسيم، فإن رصيدي الذي سبقت به الجميع، يدحض أية اتهامات، ويرد على أية ادعاءات.
ليس مقالي هذا تعبيراً عن حماستي لتقسيم سورية لأنني لست متحمساً لذلك على الإطلاق، لكنني واقعي، وأعترف بالواقع القائم على الأرض، وأدعو إلى استراتيجية جديدة لا مكان فيها للتنازلات، إنما هدفها الحفاظ على المكتسبات، والحفاظ على طاقاتنا أن تذهب هدراً، حتى لو كانت استشهاداً، لأن الشهادة في سبيل الله ليست هدفاً بحد ذاتها، إنما هي إحدى الحسنيين عندما لا ننتصر وقد بذلنا جهدنا ولا ننجو سالمين، أي نقدم ولا ندبر إلا متحرفين لقتال أومتحيزين لفئة، أما إن أمكننا أن لا نموت وأن ننسحب متحيزين لفئة المستقبل، فإننا نغيظ أعداءنا أكثر بكثير مما لو قُتلنا ونلنا الشهادة.. إن الحرص على الشهادة كيفما كان، أي بتوريط أنفسنا وأمتنا في معارك لا أمل في الفوز فيها، إنما هو انتحار يفرح به عدونا، ولا يُضيره أن يكون قتلانا شهداء وأحياء عند ربهم يرزقون، طالما أنهم انزاحوا من طريقه وأخلوا له الجو. فقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال: "أيها الناس لا تَمَنّوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم". أليس صاحب هذا الكلام هو من يبين لنا ما أنزل إلينا ويعلمنا الفهم الصحيح لرسالة ربنا إلينا؟

 إنني لا أدعو في هذا المقال للاستسلام للنظام ورفع الراية البيضاء مقابل أن يقف القتل والتدمير، بل لابد من استمرار القتال لتحقيق المزيد من المكتسبات التي نفاوض النظام عليها عندما نفاوضه دولة لدولة، وإنه حتى مجرد الحفاظ على ما بيأيدينا والإسراع في تأسيس دولتنا عليه هو ترسيخ للنصر الجزئي الذي حققته الثورة المسلحة.

مقالي هذا ليس لتوهين العزائم وبث اليأس وإضعاف المعنويات، لكنه دعوة إلى معنويات مرتفعة قائمة على إدراك الواقع وليس على الأحلام والأمنيات. ومثلما يحتاج السوريون إلى ما يرفع معنوياتهم فإنهم أحوج إلى تقييم الواقع وإدراكه إدراكاً سليماً كما هو على الأرض لا كما يتمنونه.


نحن في حاجة ماسة إلى استراتيجية واقعية مؤسسة على الحقائق لا على الأمنيات، وإلا لن تنتصر ثورتنا ولن تحقق شيئاً. صحيح أننا بالواقعية سنحصل على أقل بكثير مما قاتلنا من أجله، لكننا إن ربحنا القليل وحقنّا دماءنا لهو خير ألف مرة من الموت دون طائل، ومن استمرار القتل والتدمير والجوع والتشرد والنزوح، بينما الأمل بالحسم ضئيل. ليس علاج الموقف بنفخ الأمل والحماسة في نفوسنا كي نستمر في القتال، بل بتبين الحقائق وبعث الأمل في نفوسنا بما يتناسب مع حقائق الواقع. إن التحميس مطلوب ولو بضرب الطبول عندما يكون القرار بدخول المعركة قرارنا نحن وبناء على مصالحنا التي نرجو تحقيقها، أما تحميس الناس على الدخول في المعركة بغض النظر عن نتائجها المتوقعة فإنه نوع من قيادة الأمة كما يقاد القطيع إلى مرعاه وربما إلى مذبحه. علينا الحذر من أن نبني استراتيجيتنا وفق موضوعات إنشاء حماسية، فيها تطويع لنصوص الإسلام وتاريخه وتاريخ الأمم الأخرى، لنقنع أنفسنا أنه لا سبيل أمامنا ولا خيار لنا إلا الاستمرار فيما نحن عليه الآن. نحن أصحاب القضية ويجب أن نتحكم بما يجري كي نوجهه لصالحنا. صحيح أننا قد لا نكسب شيئاً جديداً لكن الحيلولة دون الخسارة هي ربح مؤكد.

بعضنا يقول إنه لا أمل في قيام الدولة الجديدة لأنه ليست هنالك قيادة موحدة وليست هنالك إرادة دولية لقيامها ويؤكدون أن قيام دولة سنية خط أحمر للقوى الدولية لن تسمح به، وأن غايتهم الأولى والأخيرة هي استمرار النزاع المسلح مما يعني المزيد من الدمار ومن إضعاف بلادنا، لأن قيام الدولة الجديدة سيضع حداً للاقتتال الذي لا طائل وراءه.

الذي يحرص على استمرار القتل والتدمير هي إسرائيل فقط، أما القوى الدولية فإنها لا يهمها كم يُقتل منا وكم يدمر من منازلنا لكنها لن تقف في وجه إعلان الدولة الجديدة. يستطيع سياسيو المعارضة أن يجسوا نبض المجتمع الدولي، هذا إن لم يكن واضحاً لهم حتى الآن أن إبقاء الأراضي المحررة خارج نفوذ إيران هدف للمجتمع الدولي، ولن يكون ذلك ما لم تتحول هذه المناطق إلى دولة.

لا أدعو إلى إعلان دولة كما أعلنت داعش دولتها الإسلامية، فداعش فئة قليلة العلم الشرعي وقليلة الفهم للعصر الذي نعيش فيه وهي جزء من القاعدة الملاحقة من الجميع، سيكون الأمر مختلفاً إن أنشأنا دولة مدنية في الأرض المحررة، وسيدعمنا كثيرون. إن سورية تختلف عن الصومال، ومع ذلك هنالك دولة في شمال الصومال اسمها جمهورية أرض الصومال قامت منذ أطيح بسياد بري وحكمه العسكري عام 1991، فنجت من الحرب الأهلية التي دمرت كل شيء في باقي الصومال ونَعِم الناس فيها بالأمان وبأساسيات الحياة، فلا يمكن مقارنة الحياة فيها بحياة الصوماليين في مقديشو وما حولها.. ولم يقف في وجه قيام دولة شمال الصومال أحد.

إن انتظرنا حتى تتكون قيادة موحدة للمعارضة السياسية وللمعارضة المسلحة، أو حتى تأتي الفكرة من المجتمع الدولي، سواء كان ذلك لإنقاذ النظام إن بدا أنه سيسقط، أو لم يكن، فسيطول انتظارنا، ويشتد بلاؤنا، وفي الغالب لن نحقق أي مزيد ذا قيمة. إنه حتى الدول القائمة ليس لها قيادة موحدة، بل صناديق الاقتراع تخرج قيادة جديدة كل حين. والذي عنده أمل أن يأتي يوم تتوحد فيه جميع الفصائل المسلحة تحت قيادة واحدة فإنه واهم، ويعيش في عالم الأمنيات لا في الواقع المحزن الذي نحن فيه، ألم يقل ربنا: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"؟ وهل تغير ما بأنفسنا من أفكار ومشاعر التغير اللازم والكافي لتحقيق النصر الحاسم؟

لا يمكن تبرير استمرار القتال مع أن احتمال الحسم ضئيل جداً بأن أمتنا متعودة على المعاناة تحت الاستعمار من أجيال عديدة، بل أمتنا كأي أمة أخرى تنشد الأمان والرفاهية والعزة والكرامة ولا تفرح بكثرة الشهداء.

سورية ليست فييتنام حتى تصمد على حساب الملايين من أبنائها لتضطر أمريكا في النهاية أن تتركها بحالها. فالحرب في سورية ليست حرب تحرير بكل معنى الكلمة، بل هي حرب تحرير مجازاً، لأنها حرب ضد سوريين آخرين، وإن هم استعانوا بالغرباء الإيرانيين وغيرهم، هي حرب ضد نظام ظالم ومستبد، لكنه مكون من سوريين وليس من أجانب، لذا لا يصح أن نقيس حالة سورية على حالة فييتنام أو أفغانستان أيام الاحتلال الروسي لها. وحتى لو كانت سورية مستعمرة من عدو خارجي، وقد حررنا نصفها، فما الغلط في إنشاء دولتنا عليه لنتمكن من الإعداد لتحرير الباقي بشكل أفضل؟ وهل يعقل أن نترك ما حررناه بلا دولة ليصبح مسرحاً للفوضى ومرتعاً لداعش وأمثالها ولتبقى حياة الناس فيه بدائية؟

ليس إنشاء دولة في القسم المحرر إقراراً بالهزيمة ورضىً بالذل والمهانة بعد أن ثار الناس وضحوا بأنفسهم من أجل الكرامة، بل هو تجسيد للانتصار في بنيان ملموس يحمي نفسه ولا يترك للنظام أملاً في استعادته. ولا داعِ للخشية أنه إن توقفت الثورة عند ما وصلت إليه وحققته حتى الآن، فقد لا تقوم ثورة أخرى تحرر ما تبقى من سورية من الظلم والاستبداد، إن الثورة الحقيقية هي الانفجار بعد تحمل الضغط الشديد المستمر، وإلا فلن تكون نابعة من الناس، إنما ستكون مفروضة عليهم، وهم لم يتغيروا إلى حد التمرد على الترهيب والتهميش والإذلال.

وليس إنشاء دولة في القسم المحرر خيانة وتخلٍّ عن القسم غير المحرر، لأنه لو أراد أن يتحرر فعليه أن يثور بنفسه، وواضح انه رغم الكره الشديد للنظام عند أغلب من في هذا القسم، ومن جميع الطوائف، إلا أنه لا أحد منهم يتمنى أن تتحرر بلدته بعد أن تُدَمّر ويهجرها سكانها. هذه الملايين التي في القسم غير المحرر لها الحق أن تقول كلمتها، وأن تختار لنفسها، حتى لو كان خيارها هو البقاء رازحة تحت الظلم والاستبداد. أليست ثورتنا ثورة حرية؟

ليس إقامة دولة في القسم المحرر تنازلاً عن كرامتنا ودماء شهدائنا، بل هو بمثابة إعلان انتصار مع أنه لم يكن هدفاً لأحد من السوريين الذي ثاروا يريدون الكرامة والحرية، إنه انتصار على النظام لكنه انتصار غير كامل، وسيبقى لدى النظام أمل وسيستمر في المحاولة ليعيد القسم المحرر إلى سيطرته ونفوذه إلا إن قامت فيه دولة مستقلة وذات سيادة ومعترف بها، ووقتها لا تكون اعتداءاته محاولات مشروعة لإعادة أجزاء من البلاد تمردت على حكومتها بل ستصبح عدواناً على أمة أخرى.

من يكره أن يرى سورية دولتين، عليه أن يذكر أن ذلك أفضل مئة مرة من أن يرى القسم المحرر أربع دول أو أكثر. إن الاعتراف بالتقسيم القائم والموجود بالأصل، يحمي سورية، وخاصة القسم المحرر منها من التفتيت. ومن يرى التقسيم مطلباً للنظام وللمجتمع الدولي لذلك علينا أن لا نقدمه لهم على طبق من ذهب، فعليه أن يذكر أن هذا السبب لا يستحق أن يقتل كل يوم المزيد ويصاب ويهجر الكثير ونحن ننتظر حتى يعلن النظام أو المجتمع الدولي رغبتهم في إعلان التقسيم. في بداية تحوّل الثورة إلى مسلحة قال الكثيرون إن النظام يحمل مسؤولية ما سينتج عن ذلك من خراب وقتل وتدخل أجنبي. نعم هو المسؤول، لكن هل يقدم ذلك أو يؤخر؟، وإن كانت مصلحتنا في إعلان دولتنا، أي جعل التقسيم قانونياً، فهل نضحي بمصلحتنا حتى لا يتمكن النظام من تحميلنا مسؤولية تقسيم سورية؟ هذه اعتبارات لا قيمة لها أمام المنفعة المرجوة من إقامة الدولة.

والحمد لله رب العالمين

نجران الثلاثاء 27/05/2014 ميلادي
الموافق 28/07/1435 هجري

 تعقيب هام
بسم الله الرحمن الرحيم
كنت قبل أيام قد كتبت مقالاً بعنوان "لقد آن الأوان أيها السوريون" ولحساسية موضوعه لم أنشره إنما أرسلته لمجموعة من أصحابي يتصفون بالحكمة إضافة إلى أنهم ناصحون لسورية والسوريين وطلبت منهم الرأي وعدم النشر.
كان منهم فضيلة الشيخ مجد مكي حفظه الله الذي لم يكتفِ بإعطائي رأيه الشخصي بل تكرم بإرسال المقال إلى عدد من أهل العلم يستشيرهم عادة قبل أن ينشر شيئاً على موقع رابطة العلماء السوريين. كان ذلك مفيداً جداً لي إذ جاءتني ردود كلها مخلصة لكنها مختلفة فيما بينها بين رافض بشدة لما طرحت في المقال ومتحفظ ومؤيد.
استفدت من الردود وأضفت على المقال فقرات تعادل ثلثيه وضحت فيها النقاط التي لم يفهمني فيها بعض الإخوة وبينت وجهة نظري فيها. لم أجعلها حواراً بل تتمة للمقال ثم أرسلت المقال الموسع للنشر.
وردني حتى الآن عشرات الردود كلها تقريباً توافقني أن معاناة السوريين طالت ولابد من عمل شيء لتخفيفها، وكان من أهم ما وردني رد الشيخ عبد الله المنصور الشافعي الذي رد بناء على نقولات أرسلها إليه أحد الإخوة ولم يكن قد قرأ المقال كله. كان رده غاضباً ومفنداً لكنه مهذب وفيه رحمة المؤمن بالمؤمن بادية رغم استنكاره الشديد لمقترحي في مقالي.
الشيخ المنصور حفظه الله ظن أنني أدعي أن الشيخ أسامة الرفاعي قد وافقني على أفكاري، والحق وكما هو بيّن في المقالي أن الشيخ مع الحسم العسكري، لكن قال لي جملة جعلتها مدخلاً لي للإعلان عن فكرتي. وقد كنت أرسلت المقال المصغر الذي فيه ذكر أخي الحبيب الشيخ أسامة حفظه الله لابنه السيد عبد الرحمن وطلبت منه أن يطلع عليه ويطلع والده عليه وقلت له إنني ذكرت والدكم فيه بالاسم فجاءني منه بارك الله فيه تأكيده أن المقال وصله ومرت عدة أيام ولم يصلني منه أي اعتراض بخصوص ما قلته عن الشيخ أسامة حفظه الله، فتركت النص على حاله وأضفت الفقرات التي ذكرتها قبل قليل ونشرت المقال.
المهم أن الشيخ المنصور حفظه الله استدرك على رده الأول بكلام طيب يزيل الالتباس ويبرىء ساحة شيخنا الكبير أسامة الرفاعي، فوجدت أن من الخير أن أنشر رد الشيخ المنصور واستدراكه وتعقيبي على عليهما ليطلع عليها الجميع.
الموضوع مثير للجدل واختلاف وجهات النظر وهذا هو الطبيعي والصحي والذي في النهاية يوصلنا كمجموعة من الذين يحملون هم سورية إلى أنضج الآراء وأقربها للصواب وقد يكون مختلفاً تماماً عن رأيي الذي أثار النقاش.
الدكتور محمد كمال الشريف

---------- الرسالة المعاد توجيهها ----------
من: معاذ مؤيد الدمشقي <khaled.rifaei@gmail.com>
التاريخ: 30 مايو، 2014 1:28 م
الموضوع: جواب دعاة التقسيم والطابور السابع

بسم الله الرحمن الرحيم
وي كأن السوريين لم يكفهم ما بهم من تمزق وبلاء حتى يغير عليهم بعضهم ممن لا سبر له في السياسة فيزيد الطين بلة على بلته وهو يحسب أنه يحسن صنعا !!!؟
يا أيها الناس إن الغرب لم يبلغ ما بلغه إلا بالتزام الأخلاق والتعليمات الإسلامية ولم ندرد ما دركناه إلا بإعراضنا عنها, إنه خلق وتعاليم (ولا تقف ما ليس لك به علم) "نصف العلم لا أعلم" إنها تعاليم المشورة ووقوف كل امرئ عند علمه واختصاصه, في الغرب الطبيب لا يتكلم بحضرة الصيدلي بخصوص الدواء بل رأيت أحد أكبر أطباء الغرب والله وهو يسأل صيدلي بسن أحفاده عن دواء, هل تتخيل عندنا هذه المهانة ؟ سئل الإمام مالك عن حكم البسملة وهو النجم مالك فقال إنما يسأل عن كل علم أهله سلوا نافعا, وسئل رحمه الله عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين منها لا أعلم, وقال له سائل أجابه بلا أعلم ما أقول لمن خلفي وبعثوني إليك ؟ فقال قل لهم مالك لا يعلم, وأخيرا فإن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمري والذي قيل بأنه الذي عناه النبي (ص) بعالم المدينة سئل عن شيء فقال لا أعلم فقيل له إنه يقبح بمثلك وأنت ابن إماميّ هدى (الثاني أبو بكر وهو جده لأمه) أن تسأل عن الشيء من الدين -وليس في غيره- فتقول لا أعلمه, فقال رحمه الله وأقبح منه أن أتكلف ما لا أعلم.
فبعد أن أفسدت المعارضة -باجتهادها!- وضيعت الكثير من الفرص وورطت الثورة هاهم بعض المعارضين يدعون وبكل جراءة وجهالة إلى التقسيم تقسيم سوريا!!!؟ ثم لم يكتف هذا المرء حتى زعم على لسان أحد مشايخ دمشق (الرفاعي) أن التقسيم رأي أكثر المعارضة ولكنهم لا يجرؤون على البوح بذلك خشية التخوين !!!!؟؟؟؟
ورحم الله امرءا عرف حده فلزمه, فهل تخيل هذا المرء الخريطة الجغرافية-الديموغرافية لسوريا قبل أن يتحدث عن التقسيم ؟ وهل يتصور هذا المرء حقيقة السيطرة الاقتصادية العسكرية والفكرية الايرانية على النظام ومن ثم باطن المعركة ومحركها وغاياته منه ؟ وهل تأمل هذا المرء في خريطة التقسيم وكيف تكون وكيف ستكون حال السوريين القابعين تحت حكم ايران وأن حالهم سيكون أشد من حال أهل الأحواز بأضعاف وهل سيقسم هذا المرء دمشق لقسمين والاذقية وطرطوس وحمص وهل سيجعل الساحل برمته للنصيريين ومن سيضمن كف هجمات الثوار الغير قابلين بالتقسيم وهل يكفي السنة دولة واحدة ؟ أم لداعش دولتها وللسلفية دولة والإخوان والعلمانيين دول !؟ وهل أجرى هذا المرء استقصاء للرأي حر -وأنى له به- رأي سكان الأقاليم التي يرتئي تقسيمها وهل يقبل السني في قطاع غير السنة بذلك وهل يضمن له حقوقه وعدم ترحيله وابتزاز أمواله ؟ ... الخ وبعد كل هذا هل سأل هذا المرء نفسه قبل أن يتحدث على الملأ برأيه ويروج له على أنه رأي العامة هل سأل النظام عنه ومتى علم أو سمع من النظام عن التقسيم حرف !! وهل سيقبل مئتي ألف نصيري في دمشق -أو يزيد- بالرحيل عنها ؟ أم أنه سيعتبر دمشق عاصمة للنصيريين أم حمص ؟ أم ماذا يريد هذا المرء ؟ إنه بدعوته هذه لا يزيد على أن يقدم جزءا من الشام كهدية خالصة للظام ويدق في أرض الشام إسفينا للفتنة تسيطر عليه ايران بينما يحصر الصراع بين السنة أنفسهم ليتخلصوا من داعش وأخواتها وإي والله إن لها لأخوات يوشك أن يتبرجن ...
إنه لا مانع من المطالبة بقوات عربية تركية بل وحتى عالمية (القبعات الزرق) للفصل بين المتنازعين والطوائف في مواقع النزاع وتطمينهم والغرب, أما الدعوة إلى التقسيم والذي لا يخدم غير اسرائيل فكلا.
يا أيها الناس ابحثوا عن قصد سبيل وحسن حلول ولا تبحثوا عن حل ذل ضلول . وإنا لله وإنا إليه راجعون .
عبد الله المنصور الشافعي

---------- الرسالة المعاد توجيهها ----------
من: معاذ مؤيد الدمشقي <khaleid.rifaei2@gmail.com>
التاريخ: 1 يونيو، 2014 12:56 م
الموضوع: ابراء للذمة ولجانب الشيخ أسامة الرفاعي

بسم الله ... نمّى إلي أحدهم مقالة تدعو إلى تقسيم سوريا فيما يراه الكاتب أمثل الحلول لسوريا الشام ! وكان فيما نسخه ناقلا لي التالي (بحروفة)
في لقاء جمعني مع الشيخ أسامة الرفاعي في بيت ابنته في جدة قبل ثلاثة أسابيع سألته عن رؤيته، فوجدته متفائلاً بانتصار الثورة المسلحة إن هم أطاعوه وتوحدوا صفاً واحداً تحت قيادة موحدة. سألته إن كان لديه أمل حقيقي، وهو المتفرغ لمحاولة توحيد الفصائل المقاتلة، فأجابني أن هنالك عائقاً كبيراً أمام ذلك، وهو النفوس وما فيها من أهواء مستحكمة، فأضفت أنا أن الكثير من الفصائل معتمدة مالياً، وبالتالي في طعامها وسلاحها ودوائها على قوىً خارجية، ومن هذه القوى من لا يريد للفصائل أن تتوحد، وهذا يجعل التوحيد الذي يتمناه الشيخ أسامة أقرب إلى المستحيل. بعدها أخبرته بمخاوفي من أن تستمر الحرب عشرات السنين دون حسم، وبإيماني أن الأوان قد آن لنوقف الصراع، ونتجه نحو البناء، والعودة إلى الحياة الطبيعية، ولو كان ذلك يعني إعلان تقسيم سورية إلى دولتين، وهو تقسيم قائم على الأرض، ولا ينكره إلا مكابر أو حالم.  فأجابني أن هذه الرؤية قد تكون موجودة عند السياسيين في المعارضة السورية، لكن لن يجرؤ أي منهم على البوح بها، لأن ذلك سيعني احتراق ورقته، وسقوطه سياسياً، وتصنيفه على أنه خائن وعميل. شيخنا حفظه الله على صواب في ذلك، لذا، وبما أنني لست سياسياً على الإطلاق، ولا أحلم أبداً أن أقوم بدور سياسي مهما صغر........انتهى
فظهر لي أن الشيخ أسامة موافق على التقسيم من خلال استشهاد الكاتب بقوله في مقالته الموضوعة للدليل على التقسيم وكان لدي قرينة قديمة أخبرني بها الشيخ صالح الحموي وهي قول أحد المقربين لمعاذ الخطيب اسمه أبو مازن -هكذا عرّف عن نفسه- حيث قال أبو مازن في اللقاء الذي جمعه بثلة من الثوار ومنهم أخونا الشيخ صالح الحموي حفظه الله حيث حاول فيه أبو مازن إقناع الثوار بالقبول برحيل بشار ومعه ألفين من المقربين معه وحين سأله الثوار عن مصير الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري وقتلة الفروع الأمنية وقادة الشبيحة اعترف بعد لأْيٍ أنهم سيعفون عنهم جميعا فاستوقفه الشيخ صالح قائلا ومن أعطاكم ولاية الدم ؟ فأجابه أبو مازن بأن النبي (ص) عفى عن أهل مكة, ثم إن الثوار أوضحوا له أن هذا الذي يدعو إليه لا يوافق عليه أحد من ثوار سوريا وسألوه هل استشار الخطيب الشعب؟ فما كان من أبي مازن إلا أن ادعى أن مشايخ الشام كلهم مع الخطيب وهم يؤثرون بالناس وبالتالي والكلام لأبي مازن فيوجد مع الخطيب 6 ستة ملايين إنسان !!!؟. فبالرغم من أني أقول بجواز الأخذ بحكم المحتّم فمن المستصعب جدا تطبيق الأحكام على جميع المجرمين ولكني عارضت بشدة مبادرة الخطيب يومئذ لأسباب أفردتها في مقالة خلاصتها أن الوقت لم يكن مناسبا لعرض المبادرة وقد كان ثمة سلاح كيماوي ولا طريقة عرضها فضلا عن استحالة قبول النظام بها وهو مسيّر من قبل ايران, فكتبت للمشايخ مقالة وللشيخين أسامة وسارية الرفاعي أطالبهم ببيان موقفهم من مبادرة الخطيب وقد أجابني أحد أبناء الشيخ الرفاعي أو أحفاده (على الفيسبوك) ووعد أن ينقل طلبي للشيخين أسامة وسارية, ثم لم يصدر منهما جواب فحسبت أن أبا مازن لم يفتر القول عليهم ورجح هذا عندي احتمال قبول الشيخ أسامة بالتقسيم بالرغم من أن بداية تقديم الكاتب للقائه بالشيخ أسامة يظهر أن الشيخ لا يعول على حل آخر غير الحسم العسكري, فعلقت القول مبهما بخصوص موافقة الشيخ أسامة على التقسيم ثم إن الأخ صاحب المقالة (وهو أخ فيما نحسبه صالح ولكنه زل زلة شنيعة في دعوته للتقسيم وخاض فيما لا علم له فيه) أرسل تصحيحا وبيانا عن موقف الشيخ أسامة حفظه الله وهو قوله : أما الشيخ أسامة فلم يؤيد فكرتي لكن قال لي قد يكون هنالك من يفكر مثلك لكن لا يجرؤ على طرح الفكرة .انتهى فكان لزاما علي أن أنقل موقفه الحق حتى لا يتوهم قارئ فيظن بالشيخ ماليس فيه
عبد الله المنصور الشافعي
جزاكم الله خيراً يا شيخ مجد، فأنا لم أتفاجأ بحرص الشيخ عبد الله المنصور الشافعي حفظه الله على الدقة والأمانة، فأنا أقرأ له كل ما يكتب تقريباً وأشهد أنه دقيق وحريص رغم حدته أحياناً وهي حدة محمودة لأنها في المواطن التي يراها حقاً ومن حرقته على الشعب السوري. وحمدت الله كثيراً أنه حفظه الله يحسن الظن بي.
أخي الحبيب أنا أدعو إلى بناء دولة في المناطق المحررة تستوعب اللاجئين والنازحين ليعيشوا حياة أقرب إلى العادية من حياتهم المعطل فيها كل شيء إلا انتظار النصر. إن استطعنا أن نحافظ على سورية موحدة رغم التآمر الدولي والإقليمي عليها فإن الدولة الجديدة تستطيع أن تندمج مع الدولة الأم بيسر وسهولة، لكن لا نترك أهلنا يعانون بلا نهاية والله وحده يعلم متى سنستطيع توحيد سورية كلها تحت حكم وطني راشد. إن رأيي المثبت في مقالي "ثورة سلمية محمية" أنه كان من الخطأ إعلان مناطق محررة، وكان الأفضل إعلان مناطق آمنة تبقى جزءاً من الجمهورية العربية السورية لكن لا تدخلها المخابرات والشبيحة إلا على جثث أبنائها، لأن الدفاع عن النفس حق فطري لا ينازع فيها اثنان، ولأني كنت أريد للدولة أن تبقى وللنظام أن يسقط، والذي حصل أن الدولة سقطت في الأجزاء المحررة من سورية وصارت معاناة الناس فيها شديدة. كيف نتلافى استمرار المعاناة؟ لقد أردت إثارة القضية وبطريقة مستفزة لأنني أرى الناس هائمة في أحلام اليقظة وكل يوم يقتل أناس جديدون وتهدم بيوت وأحياء جديدة ويتشرد آلاف أخرى من السوريين.
 يجب أن نسعى إلى مصلحة الأمة التي لا تتحقق بالشعارات والطوباويات بل بالواقعية وبحساب الربح والخسارة.
أدعو الله أن يدلنا على الصواب ويهدينا سبلنا
الدكتور محمد كمال الشريف